الأحد، 27 أكتوبر 2013

الشاعـــــر / عبـد الحميــد الــديـــب " صوت البؤســـــــاء " - بقلــم إسماعيـل بريــك


ولد عبد الحميد الديب عام 1898م بقرية كمشيش بمحافظة المنوفية لأسرة فقيرة بائسة كان والده السيد الديب فلاحاً فقيراً يعمل جزارا في مواسم القرية وأعيادها – وألحق ابنه عبد الحميد الديب بكتاب القرية فحفظ القرآن وجوََّده ثم التحق بمعهد أزهري في الإسكندرية وبعد أن نال منه شهادة متوسطة التحق بكلية دار العلوم بالقاهرة ليسكن في حجرة متواضعة بحيَّ الحسين في "قصر الشوق" وكان يقول دائماً " إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالوا لحفاةٍ يوم ريح اجمعوه" وأطلق علي الغرفة التي استاجرها " جحر الديب " وعاش حياة بائسة لرقة حاله وضيق ذات اليد يصف غرفته فيقول :-
أفي غرفتي ياربٌّ أم أنا في لحدي ؟
ألا شدَّ ما ألقي من الزمن الوغدِ
لقد كنتٌ أرجو غرفةً فأصبتها
بناءً قديم العهدِ أضيق من جدَّي
فأهدأ أنفاسي يكادُ يهدٌّها
وأيسرٌ لمْسٍ في بنايتها يردي
أري النمل يخشي الناس إلاَّ بأرضها
فأرجله أمضي من الصارم الهندي
تساكنني فيها الأفاعي جريئةً
وفي جوَّها الأمراضٌ تفتك أو تعدي
تراني بها كل الأثاث – فمعطفي
فراشٌ لنومي أو وقاءُ من البردِ
وأمَّا وساداتي بها فجرائدٌ
تٌجدَّدٌ إذ تبلي علي حجر صَلْدِ
تعلَّمتٌ فيها صبر " أيوب " في الضني
وذقتٌ هزال الجوع أكثر من " غاندي "
وطالما عجز الديب عن سداد إيجار تلك الغرفة رغم أنه " ثمانون قرشاً " يصور ذلك فيقول :-
ثمانون قرشاً أهلكتني كأنها
ثمانون ذنباً في سجلَّ عذابي
طوَيْتٌ لها الدنيا سؤالاً وَكٌدْيةً
فما ظفرت نفسي بردَّ جوابِ
ففي كل شهرٍ لي "عواءٌ " بموقفٍ
يباعد عني أسرتي وصحابي
وطول ليالي الشهر يهتاج مضجعي
مخافة ربَّ البيت يطرق بابي
يطالبني في غلظةٍ فأجيبه
إجابة مَنْ يرجو يداً ويحابي
ألا سكنٌ ملكي ولو بجهنٌم
وَأكْفيَ من الأيام شرَّ حسابي
ويصف لنا الشاعر البائس صاحب البيت عندما يحلٌّ موعد سداد أجرة الغرفة التي يسكنها الديب وهو يتعامل معه بكبرياء وغلظة فيقول الديب :-
يمرٌّ علي سكناي في ذيل بيته
مرور عيون الموسرين علي الفٌلْسِ
تكبَّرَ فالألفاظ منه إشارةٌ
كأنَّ عباد الله طرَّاً مِن الخٌرْسِ
وإن نطقَ الفصَحي فمن طرف أنفه
كنفخة ذي جاهٍ ومالٍ من الفٌرْسِ
صحوتٌ علي قصف الرياح وصوته
وما أحدث الطرق الخليع من الجرس
يطالبني بالأجر في غيظ دائنٍ
فصيْدٌه المحتالٌ بالثمن البَخسِ
وقالَ يداري ظٌلْمَهٌ أيّ ضامن ٍ
لسٌكْني تعرَّتْ عن سرير وعن كٌرْسي ؟
أَراك بها كل الأثاث ولا أري
سِوي قلم ثاوٍ علي الأرض أو طُرس ؟
فَقٌلتٌ لَهٌ هذي جدودي كما تَري
فما سكني في البيت بل أنا في رَمْسِ
وَأسْمَعْتٌهٌ صوت الدراهم فانحني
يقدَّم أعذار اليهود من الوَكْسِ
إذا كانت السٌكني بأجرٍ مَذَلَّةً
فما أرحب المجَّانِ في غرف الحَبْسِ
وذات يومٍ أغار أحد اللصوص علي غرفة الديب فلم يجد إلاَّ لحافاً قديماً ظفر به ذلك اللص فكتب الشاعر البائس عبد الحميد الديب رثاء للحافه يقول :-
لحافي وَهَلْ غير الهباء لحافي ؟
بقيَّة نَسْج دارسٍ وندافِ
أطاف به لِصٌّ فقيرٌ كعيشتي
فيا بؤسها من هجرةٍ ومطافِ
ولم أخْشَ من ذا الرٌّزء إلاَّ فضيحتي
بأني قد ملكتٌ شرَّ لحافِ
فليتك يا لصَّي الجرئ وجدتني
غنيَّاً وسعدي في الحياة موافي
لقد ضاع منَّي ذا الغطاءٌ فهل تري
أٌدثَّرٌ شعراً صافياً وقوافي ؟
وتحت وطأة الفقر والبؤس والإحساس بالظلم من المجتمع تجاه الديب  اندفع نحو التشرٌّد والصَّعلكة وشرب الخمر وشم الكوكايين والعربدة  يقول الشاعر البائس عبد الحميد الديب :-
دع الشكوي وهات الكأس نسكرْ
وَدَعْكَ من الزمانِ إذَا تنكَّرْ
وهام بي الأسي والبؤسٌ حَتَّي
كأني عَبْلةُ والبؤسُ عَنتَرْ
كأني حائطُ كتبوا عليه
هنا يا أيها المزنوق "طَرْطَرْ"
وانغمس الديب في شرب الخمر وعالم السُّكْر فيقول :-
يا لائمي في الطَّلا أَفْرغْتُ منك يدي
فأنت في حرمات الخلد دَسَّاسُ
قُلْ للخليَّين مَنْ يصحون من غسقي
أنتم علي طُهركم بالماء أنجاسُ
كل العباد سُكاري في معيشتهم
والسُّكْرُ كالخلق أشكالُ وأجناسُ
ويدخل الشاعر البائس السجن بتهمة التشرد والسُّكْر البيًّن فيصف أحوال المساجين داخل السجن فيقول :
وإخوانُ سجنٍ قَبٌحتْ من وجوههم
همومُ توالي دائماً وخطوبُ
فمنظرهم أضحوكةُ كلباسهمْ
ومَخبرهم في الحادثات رَهيبُ
فكم ليلةٍ في السجن بين صباحها
وبين دُجَاهَا مَشرقُ وغروبُ
وكل ضياءٍ في الغيابة خادع
ففجر الأماني للسجين كذوبُ
ويخرج الديب من السجن ليجد نفسه منكبَّاً علي الشرب والسُّكْر والعربدة فيذبل عوده ويضطرُّ أصدقاؤه أن يدخلوه مستشفي الأمراض العقلية بالعباسية " المارستان " ومن داخل المستشفي يكتب الديب قصيدة يصور فيها مأساة نزلاء المستشفي فيقول :-
رَعاكَ اللهُ " مارستان " مصْرَ
فإنك دارُ عقل لا جنونْ
حويتَ الصابريَن علي البلايا
وَمنْ نزلوا علي حُكْم السنين
وَمَنْ هبطوا بهم من صرح عِزًّ
إلي أغلال إذلالٍ وهونْ
تراهمْ خائِفين فإن أثيروا
بمهزلةٍ فآسادُ العرينْ
وإنْ سُئلوا عن الأسرار كانوا
كمَنْ أخذوا عن الروح الأمينْ
وَرُبَّ مُهرّج منهم بقولٍ
يريك الجدَّ في ثوب المجونْ
فإنْ يغضبْ بقارصة تباكي
فأبكي العين بالدمع الهتونْ
يُعَذّبُهُ عبادُك كل يومٍ
ويصْلَي الضيمَ حيناً بعد حينْ
وكَمْ في مصر من غِرٌغَبيّ
تمتَّعَ بالجميلِ وبالثمينْ
ولو عدلوا لأمْسَي " خانكيَّاً "
يُعَذَّبُ بالشمالِ وباليمينْ
وعندما أراد الديب أن يكمل نصف دينه اختار أرملة اسمها السيدة " إحسان " ولم يكن يملك مهراً لها وافقت علي الزواج منه وأقام أصدقاؤه حفلاً للعريس يصفه الشاعر البائس عبد الحميد الديب فيقول :-
أقام ليَ الأصحاب عُرْسَاً فُمذْ رأوا
به محنتي تشدو أقاموه مأتما
وريُّ العطاشي من نميري بينما
سُقيتُ به مُهْلاً حميماً وعلقما
لقد نجح الإجرامُ حتى رأيتني
إذا رُمْتُ بعض العيش أصبحت مُجْرمَا
وَلَسْتُ بمختار الشقاء أو الهنا
فطول حياتي أشربُ الكأس منهما
ويبدأ الديب حياته بعد الزواج لتكتشف الزوجة أنه لا يملك قوت يومه فكيف حاله وقد أصبح يعول أسرة فتعتب عليه الزوجة فيرد عليها بقصيدة يقول فيها :-
يا ربَّةَ الدَّارِ لا ترثي لأرزاقي
قدْ قدَّرَ اللهُ إسعادي وإملاقي
معيشتي بين مصر أصبحت مثلاً
لعبقريًّ غنيّ النفس أفَّاقِ
والبؤسُ يا هذه حَبْلي وآصرتي
إلي السماء تريني فيض خلاَّقِ
وذات يومٍ يسرف الديب في شرب الخمر فيقع وتنكسر ذراعه  ويدخل مستشفي القصر العيني ويمكث عدة أيام لتلقي العلاج في قسم العظام ولم تزره خلالها زوجته إحسان ويتألم الديب كثيراً فيصور لنا ذلك شعراً فيقول :-
كلًٌ المكاسيرِ زارتهم أحبتهمْ
ولم يزرني إلاَّ طيفِ نجواكِ
قد ذِقتِ لذة توحيدي فما نفعتْ
فاليوم أسقيك عدلاً كأس إشراكي
أري بهجرك جلاَّدي ومقصلتي
متي وأين إذن يا ليلُ ألقاكِ
زيد لي في الليالي ليلة الشاكي
جنت حياتي في وردي وأشواكي
إحسانُ – لا تفرقي من محنتي وثقي
أنَّي علي الرغم من بلواي أهواكِ
ويمر عيد الأضحي غلي الديب وهو يعاني من الحزن والأسي والاغتراب وضيق ذات اليد فيصور ذلك شعراً فيقول :-
يا معشر الديب وافي كل مغتربِ
إلاَّ غريبكمُ في مصر ما بانا
قدَّمتمُ الشاة قرباناً لعيدكمُ
والدَّهر قدَّمني للبؤسِ قربانا
ويبتسم الحظ للشاعر البائس عبد الحميد الديب عندما ألقي قصيدة في حفل معهد الموسيقي بحضور وزير الشئون الاجتماعية حيث وصف الديب معهد الموسيقي وصفاً رائعاً حيث يقول فيها :-
يا دار داودَ ما فاتتك سَرَّاءُ
يشدو بها ملهماً غصنُ وورقاءُ
آسيت كل جراح القلب من نغمِ
يزجي به من عيون الفن أكفاءُ
من عازفٍ أو هتوفٍ إن هما اجتمعا
تجمَّعَ الحُسْنُ والمخضرُّ والماءُ
عبقريّ غناءٍ من ترنّمِهِ
تصفو النفوس فما في الناس أعداءُ
وبعد أن انتهي الديب من إلقاء القصيدة الرائعة صفق له الوزير وقرر تعيينه موظفاً بالمؤهل المتوسط بوزارة الشئون الإجتماعية وذهب الديب وقدم مسوغات التعيين وتسلم عمله بوزارة الشئون الاجتماعية ولم يجد مكتباً يجلس عليه ولا عملاً يؤديه فكتب إلي الوزير :
بالأمس كنتُ مشرداً أهليَّا
واليوم صرتُ مشرَّداً رسمياً
فتم تدبير عمل له ومكتب يجلس عليه وعندما حلَّ موعد استلام راتبه أول الشهر فوجئ الديب بأنه يتقاضي ثلاث جنيهات فقط بينما يتقاضي زملاؤه في العمل أضعاف راتبه بحكم أقدميتهم فثارت ثائرة الديب وكتب إلي الوزير يقول :-
جناحي في ظلالك يستهاضُ
وأيامي علي ذُلَّي تراضُ
وقد شبعت من النعمي بطون
مغلظة وأقفيةُ عراضُ
تجافت لي وجوه اليسر ظلما
وأفرخ معشر فيها وباضوا
خجلت من التهاني أيْ وربي
أيهنئني علي بَرصي البياض ؟
ولم يقنع بعظم الشاة ليَثُ
وقد سبح الذئاب بها وخاضوا
وتمر ذكري رحيل والده ووالدته وهو بهذه الحال من الحزن والآسي فيكتب قصيدة حزينة مليئة بالشجن والعاطفة يقول فيها :-
الوالدانِ .... هلكتُ بعدهما
مَنْ لي علي ردّ الأسي بهما
استوحش الدنيا كراهيةً
مُذْ ذقتُ كأسي من فراقهما
مَنْ موقظُ أُمّي لأِسمعها
قلباً يذوب لموتها ألَما ؟
وأبثها لهفي لرؤيتها
وتحرٌقي أن أبلغ العدما
فأعيد أفراحي بحضرتها
وتدَللُّي في البيت محترما
أمّي إذا أصبحت نافلةً
لم تلفني إلاَّ فتيً علما
وإذا لحاني الناس كلهمُ
أضْفَتْ عَليَّ حنانها كَرَما
وإذا افتقرتُ وجدت رحمتها
قد أمطرتني اليسر والنعما
أبي ... وَمَنْ يحييه لي لأِري
وجهاً كنور الشمس مبتسما
أري برؤية وجهه لهفي
وأطالع الدنيا به قُدُمَا
ما شِمْتُهُ يوماً تَجهَّمَ لي
مَهما تجلَّي الخطبُ أو عَظُما
آهٍ ، وَهَلْ ألقاهما يقظا
أو نائماً ألقاهما حُلْما ؟
الوالدان . هلكتُ بعدهما
مَنْ لي علي رَدّ الأسي بهما ؟
ويقول الديب في الشكوي وسوء العيش :-
نهاري إمَّا نَوْمَةُ بين مَسْجِدِ
غراراً وإمَّا في الطريق تسكعُ
وأطوي عصي الليل في القرّ ساعياً
وأيَّان للأفَّاق في الكون مهجعُ
إذا أذَّنوا للفجر طرتُ مُسَارعاً
إلي مَسْجدٍ فيِه أصلّي وأركعُ
أمرُّ علي المقهي فأسمع شامتاً
يمزّقُ في عِرضي وآخر يشفعُ
وقد ساءَ ظني بالعباد جميعهِم
فأجمعتُ أمري في العداء وأجمعوا
والديب شأنه شأن كل الشعراء فهو مرآة صادقةُ تعكس ما يدور في عصره من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية نراه يصف ضمور رغيف العيش فيقول :-
صَغُرَ الرغيفُ كأنما هو قطعةُ
من قلب تاجره وجلد البائع
هل صار وهما أو خيالاً إنَّهُ
قد عاد غيرَ مؤمَّلٍ أو نافع
قد كان شيخاً للطعامِ فما لَهُ
قد صار شبه وليد شهرٍٍ سابعِ
وها هو الديب يصور لنا جشع التجار في قصيدة أخري يقول فيها :-
قَبْلَ الأعادي حاربوا التُجَّارا
لا تتركونا للغلاء أسَاري
سيَّان : من طعم الغلاء بعيشهِ
ومن اصطلي بين القتال النارا
والقاتلان اثناَن : عادٍ في الدُجي
أو تاجرُ قتل النفوس نهارا
ويهاجم الديب إحدي الحكومات في قصيدة له يقول فيها :
برامكةُ وليس لهم رشيدُ
وأقيالُ وكلهمُ عبيدُ
مدحتهمُ فما شرفوا بشعري
لخسّتهم وما شرف القصيد
وصغت هجاءَهم فإذا الأهاجي
علي الأفواه لحنُ أو نشيدُ
وأسفلُ صاعدٍ للمجد قومٌ
علي حرماتهم كان الصعودُ
لكيما يحكموا ركعوا هواناً
وطاب لهم من الذُّلَّ السجودُ
فيا بئس الحكومة والمعالي
إذا ارتفعت إلي الحكم العبيدُ
وقد زَيَّنَ البعض للديب أن يمدح رئيس وزارة سابق يطري بزعامته ويستجدي أريحيته فاستجاب الديب وأنشد بين يدي الزعيم قصيدة مطلعها :-
إن الذين يبايعونك إنما
يجدون في الزلفي لغيرك عارا
فصفق الزعيم ولم يمنحه ما كان يصبو إليه فانقلب الديب هاجياً في قصيدة يقول فيها :-
رَاجعْ زمانك أيُّهذا الكاسُ
فاليوم لا نحسُ ولا ........
لم يبق من مجد الزعامة كلّهِ
إلاَّ قميص أزرَقُ ولباسُ
وأخذ الديب يستعدي الفقراء علي نظام الإقطاع وأطلق صرخته الشهيرة يقول فيها :-
"كُلُوا " الحكومة او موتوا من الجوعِ
صوتُ الضعيف المرجيّ غير مسموعِ
مَنْ حَرَّموا اللحم في يومين هل علموا
أن ليس في حكمهم زيدُ لتشريع ؟
حكومة الفقر والأيام قبلهمو
علي الوري حَرَّمته ألف أسبوعِ
واخيراً ارتاح الديب بعد ان أضناه الأسي والبؤس فقد أدخل مستشفي القصر العيني بعد تعرضه لانفجار في شرايين المخ وتوفي في 30 إبريل سنة 1943 ورثاه صديقه الشاعر كامل الشناوي بقوله :-
اليوم مات شاعر تعرّي واكتست الأضرحة .. وجاع وشبعت الكلاب ."

المصـــــادر والـمراجــــع
1- مأساة شاعر البؤس للأديب محمد محمود رضوان كتاب الهلال العدد202 فبراير عام 1976 دار الهلال القاهرة .
2- الشاعر عبد الحميد الديب حياته وفنه للدكتور عبد الرحمن عثمان صادر عن دار المعارف مصر سنة 1968 م .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق